
مقال | رؤية للنظام الصحي في دولة الكويت: نحو مستقبل صحي مستدام

د. فيصل عبدالله الصايغ
استشاري الأمراض الباطنية وأمراض الدم – أستاذ سابق في كلية الطب بجامعة الكويت
يمثل النظام الصحي ركيزة أساسية من ركائز التنمية في دولة الكويت. على مدار العقود الماضية، حققت وزارة الصحة إنجازات ملموسة في تطوير البنية التحتية الصحية وتوفير خدمات طبية متقدمة، يتجلى ذلك في إنشاء مستشفيات عالمية المستوى مثل مستشفى جابر ومستشفى الولادة الجديد. غير أن متطلبات الرعاية الصحية المعاصرة تفرض تحديات جديدة تستدعي تبني رؤية إصلاحية شاملة، تجمع بين الابتكار التقني والتطوير الإداري وتنمية الكفاءات البشرية، لضمان نظام صحي مستدام يلبي احتياجات المجتمع الكويتي، ويرتقي بجودة الحياة لجميع المواطنين والمقيمين.
التحديات الراهنة وفرص التطوير
- الحوكمة وكفاءة الإدارة: نحو نظام إداري مرن وفعال
على الرغم من بعض الجهود المبذولة لتطوير المنظومة الإدارية، لا تزال وزارة الصحة تعاني من جمود إداري وبيروقراطية مُعيقة لسير العمل. تظهر هذه البيروقراطية في طول الإجراءات وتعقيدها، وبطء اتخاذ القرارات، مما يؤثر على كفاءة العمليات الإدارية والطبية على حد سواء. هذا الجمود يمتد من أبسط الإجراءات اليومية وصولاً إلى المشاريع التطويرية الكبرى. تتطلب المرحلة القادمة إعادة النظر بالنهج الإداري المتبع وتبني نماذج الإدارة الرشيقة (Lean Management) التي أثبتت فاعليتها عالمياً في تحسين الكفاءة وتقليص الهدر.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن اللامركزية الإدارية، مقرونة بآليات مساءلة دقيقة، تسهم في تعزيز المرونة التنظيمية والاستجابة السريعة للمتغيرات. كما يمثل تطوير القيادات الصحية من خلال برامج تدريبية متخصصة بالتعاون مع المؤسسات العالمية ركيزة أساسية لتحقيق التميز الاداري.
- التحول الرقمي: تسخير التكنولوجيا لتعزيز جودة الرعاية
يمثل التحول الرقمي فرصة استراتيجية لا تقدر بثمن لتطوير منظومة الخدمات الصحية في الكويت، والارتقاء بتجربة المرضى إلى آفاق جديدة. إن إنشاء نظام معلومات صحي متكامل، يرتكز على الملف الصحي الإلكتروني ويعتمد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، من شأنه أن يحدث نقلة نوعية في دقة التشخيص، وفاعلية القرارات العلاجية، وتقليل الأخطاء الطبية بشكل ملحوظ. إلا أن تحقيق هذه الرؤية الطموحة يتطلب معالجة التحديات الراهنة التي تواجه البنية التحتية التقنية في وزارة الصحة. فالواقع يشير إلى وجود نقاط ضعف وهشاشة في النظام الحالي، تتجلى في الأعطال الفنية المتكررة التي تعرقل سير العمل وتؤثر سلباً على جودة الخدمات المقدمة. فالخلل الفني الذي شهدته الوزارة في سبتمبر 2024 خير شاهد على الحاجة الملحة لتطوير البنية التحتية التقنية، والتحول إلى أنظمة أكثر حداثة وموثوقية. وعلى صعيد متصل، تفرض الثورة الرقمية ضرورة قصوى لتعزيز الأمن السيبراني، لحماية البيانات الصحية الحساسة وضمان استمرارية الخدمات في وجه التهديدات المتزايدة. كما يستلزم النجاح في هذا التحول استثماراً مكثفاً في تحديث البنية التحتية التقنية، وتوفير برامج تدريب متخصصة للكوادر الصحية و الإدارية، لتمكينهم من الاستفادة المثلى من الإمكانيات الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة.
- جذب الكفاءات الطبية: رأس المال البشري كمحرك للتميز
لا يزال القطاع الصحي في دولة الكويت يواجه تحدياً متزايداً يتمثل في نقص الكفاءات الطبية في بعض التخصصات، واستمرار هجرة الأطباء والكوادر المؤهلة إلى القطاع الأهلي أو إلى الخارج. و يعود هذا النقص إلى أسباب متعددة ومتداخلة، تشمل العامل المادي المتمثل في محدودية الحوافز والمزايا المالية مقارنة ببعض الدول المجاورة، بالإضافة إلى بيئة العمل التي لا تزال تعاني من بعض التحديات، والبيروقراطية الإدارية المُعيقة، ومحدودية فرص التطوير المهني المستمر. هذه الهجرات المستمرة للكفاءات الطبية تُشكل خطراً حقيقياً على جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين والمقيمين، وتزيد من الضغط والإرهاق على الكوادر الطبية المتبقية.
- جودة الخدمات وتجربة المريض: إعادة المريض إلى محور الاهتمام
للارتقاء بجودة الخدمات الصحية وتجربة المرضى، يجب تبني عدة محاور أساسية ومتكامل. في مقدمتها، التطبيق الدقيق والمستمر لمعايير الجودة والاعتماد العالمية في كافة المرافق الصحية، مع التقييم الدوري والمستقل لتحديد نقاط الضعف ومعالجتها، بما يضمن تقديم خدمات آمنة وفعالة ومتمحورة حول المريض. كما يتطلب الأمر تفعيل دور الرعاية الصحية الأولية لتكون بمثابة نقطة الاتصال الأولى والأساسية للمرضى، مع توفير الموارد اللازمة وتأهيل الكوادر وتوعية الجمهور بأهميتها، لتقديم خدمات وقائية وعلاجية شاملة وتقليل الضغط على المستشفيات في الحالات غير الطارئة. بموازاة ذلك، ينبغي تطوير برامج توعية صحية مبتكرة وشاملة، تستفيد من وسائل الإعلام الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي، بهدف رفع الوعي الصحي لدى جميع فئات المجتمع وتشجيع السلوكيات الصحية السليمة والوقاية من الأمراض، مع ضمان استمرارية هذه البرامج وتجددها وقدرتها على الوصول لكافة الشرائح. وأخيراً، يمثل التركيز على تجربة المريض وتحسينها عنصراً حاسماً، يستوجب الاهتمام بها في كل مراحل الرعاية، وجمع الأراء والملاحظات بشكل دوري، واستخدامها كبوصلة لتطوير الخدمات والارتقاء بها.
- الاستدامة المالية والشراكات الاستراتيجية: تبني نموذج تمويل مالي مرن ومستدام
يمثل ضمان الاستدامة المالية للنظام الصحي تحدياً استراتيجياً بالغ الأهمية، خاصة في ظل المتغيرات الاقتصادية المستمرة وتزايد تكاليف الرعاية الصحية. يتطلب تحقيق هذه الاستدامة تطوير نموذج تمويل مالي مرن ومتنوع المصادر، يرتكز على مزيج متوازن يجمع بين التمويل الحكومي الأساسي، وإيرادات مُستدامة من رسوم أو ضرائب مُخصصة للقطاع الصحي، والشراكات الفاعلة مع القطاع الأهلي، بالإضافة إلى تشجيع تبرعات أفراد المجتمع ومؤسساته.
إن تخصيص جزء من الإيرادات العامة من خلال ضرائب أو رسوم مُحددة لدعم القطاع الصحي، يضمن تدفقاً مالياً ثابتاً ومُخصصاً لتلبية الاحتياجات المتزايدة، ويُعزز من قدرة الوزارة على التخطيط طويل الأجل وتنفيذ المشاريع التطويرية الضرورية. وبالإضافة إلى ذلك، تتيح الشراكات الاستراتيجية بين القطاعين العام والخاص فرصة قيّمة للاستفادة المتبادلة من الخبرات والموارد، بما يساهم في تطوير البنية التحتية الصحية، وتحسين جودة الخدمات المقدمة، مع التأكيد الدائم على المسؤولية العامة للدولة في ضمان عدالة الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية لجميع فئات المجتمع دون استثناء.
آليات التنفيذ: من الرؤية إلى الواقع ..
يتطلب تحقيق الرؤية الإصلاحية تطوير خارطة طريق واضحة تحدد الأولويات والمبادرات الرئيسية، مع وضع مؤشرات أداء قابلة للقياس مرتبطة بأهداف محددة زمنياً. فتشمل المبادرات ذات الأولوية الآتي:
– تأسيس هيئة مستقلة للجودة والاعتماد في القطاع الصحي.
– تطوير نظام معلومات صحي متكامل يدعم الخدمات الإلكترونية والتطبيب عن بعد.
– إنشاء أكاديمية وطنية للقيادات الصحية.
– تطوير إطار تشريعي يدعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
يتبنى نهج التنفيذ المرحلي تحقيق إنجازات سريعة تعزز ثقة مستخدمي الخدمات الصحية وتدعم الزخم الإصلاحي، مع العمل على المبادرات الاستراتيجية طويلة المدى. يتطلب ذلك إنشاء مكتب لإدارة التحول لضمان المتابعة الدقيقة للتنفيذ، وتحديد التحديات وإيجاد الحلول المناسبة. كما يمثل التقييم المستمر ركيزة أساسية لضمان تحسين الخدمات، من خلال قياس المؤشرات ومراجعة النتائج وتعديل الخطط وفق المستجدات والدروس المستفادة.
وهناك نقطة مهمة وجب ذكرها لنجاح أي رؤية إصلاحية تتمثل بإشراك جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك العاملين في القطاع الصحي والمرضى والمجتمع الأكاديمي والقطاع الخاص، في عملية التخطيط والتنفيذ، لأن ذلك يسهم في بناء الثقة وتعزيز المسؤولية المشتركة تجاه تحقيق الأهداف.
كما يلعب كل من الإعلام ووسائل التواصل دوراً محورياً في بناء الوعي والدعم المجتمعي للمبادرات الإصلاحية، من خلال إبراز قصص النجاح والتقدم الحاصل في المجالات الطبية وتعزيز مفاهيم الشفافية والمساءلة.
الرؤية المستقبلية: الكويت نموذج إقليمي للتميز الصحي ..
تسعى هذه الرؤية إلى تحويل النظام الصحي الكويتي إلى نموذج إقليمي متميز، يجمع بين:
– الجودة العالية: خدمات صحية تتوافق مع أعلى المعايير العالمية.
– العدالة والشمول: إتاحة الرعاية لجميع فئات المجتمع دون تمييز.
– الاستدامة: نموذج تشغيلي وتمويلي يضمن استمرارية وتطور الخدمات.
– الابتكار: بيئة محفزة للإبداع وتبني أحدث التقنيات والأساليب العلاجية.
– المرونة: قدرة على التكيف والاستجابة للمتغيرات والتحديات المستقبلية.
وبناء على ما سبق نأمل كما ندعم في الختام بأن تمثل هذه الرؤية خارطة طريق لبناء نظام صحي متطور يلبي طموحات المجتمع الكويتي ويسهم في تحقيق التنمية المستدامة. إن تضافر جهود جميع الجهات المعنية – الحكومية والخاصة والأكاديمية والمجتمعية – سيمكن من تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، يرتقي بجودة الحياة ويعزز مكانة الكويت كنموذج إقليمي للتميز في الرعاية الصحية.
“الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المنتدى الوطني الكويتي ولا يتحمل أي مسئولية عن محتواه.”