
مقال | نظرة للحياة .. الأصل هو الفناء والبقاء استثناء

يوسف البناي
فيزيائي وكاتب
تخيل لو ضغطنا كل أحداث الوجود منذ لحظة الانفجار العظيم حتى الآن في “رُزنامة كونية” مكونة من ١٢ شهر، بحيث: الساعة = ١.٥ مليون سنة اليوم = ٣٨ مليون سنة – تخيل منذ لحظة الانفجار العظيم (بداية رأس السنة) حتى شهر أغسطس لم تتكون المجموعة الشمسية! أي أكثر من ٩ مليار عام ظل الكون فارغ بلا معنى، مجرد نجوم ومجرات وغازات هيدروجين وهيليوم تسبح وفق قوانين الفيزياء. – في شهر سبتمبر تتكون المجموعة الشمسية والأرض. – في شهر أكتوبر تظهر الحياة لأول مرة (طبعا ليس إنسان ولا بطريق ولا حصان) فقط بكتيريا بدائية (حياة بدائية). وبقيت الحياة هكذا بدائية حتى منتصف ديسمبر! أي أكثر من ٣ مليار سنة بقيت الأرض بحياة بدائية فقط! – لم تظهر الحيوانات المتطورة البدائية إلا في يوم ٢٢ ديسمبر! أي ظهرت هنا البرمائيات والسحالي الأولى. – انتبه في هذه الفترة (٢٤ ديسمبر) لا يوجد قارات مثل قارات العالم الحالية وطبعاً لا يوجد حدود دول ولا اتفاقيات سلام مخروقة ولا كل هذا الخيال البشري. كانت الأرض كلها عبارة عن قارة واحدة عملاقة اسمها “بانجيا” تكسرت وتفككت عبر مئات ملايين السنين التالية تدريجياً للوضع الحالي. – ٢٥ ديسمبر ظهرت الديناصورات وستهيمن على الكوكب حتى ٣٠ ديسمبر (أي استمرت الهيمنة لمدة ٢٠٠ مليون سنة تقريبا!) – ٢٦ ديسمبر ظهور أول الثدييات والتي ستتطور لكل ثدييات العالم الحالي بما فيها نحن البشر. – ٢٧ ديسمبر ظهور الطيور منحدرة من الديناصورات. كل طيور العالم الحالية هي ديناصورات مُعدلة! حاول أن تستمع بهذه الحقيقة وأن الطيور اليوم. – ٢٨ ديسمبر ظهور الزهور لأول مرة. – يوم ٣٠ ديسمبر كارثة تحل بالأرض وبمن عليها؛ نيزك عملاق يضرب قبالة سواحل المكسيك متسبباً بانقراض الديناصورات وكثير من الأنواع الحية الأخرى معها. آخر يوم في السنة: – ٣١ ديسمبر، ظهور وتطور القردة العليا. – الساعة ٨ ليلاً، انفصال خط البشر عن الشمبانزي (قبل ٧ مليون سنة تقريباً) – الساعة ٩:٢٥ ليلاً، بداية مشي أسلافنا على قدمين. – الساعة ١١:٥٢ ليلاً، ظهر نوعنا البشري الحالي (هومو سابينس). – قبل دقيقة فقط من ختام السنة: هاجر نوعنا الحالي من افريقيا وانشر في كل قارت العالم الحالية والتي تفككت أساساً من القارة الأم بانجيا. آخر دقيقة: – رسم الانسان أولى الرسومات في الكهوف. – قبل ٣٠ ثانية فقط، ظهور الحضارة الفرعونية! – قبل ٥ ثوان ظهور الأديان! آخر ثانية (خذ نفساً عميقا): – قبل ثانية واحدة فقط تبدأ الثورة العلمية! – قبل نصف ثانية فقط ظهور الثورة الصناعية الأولى. – قبل ٠.٢ ثانية نهاية الحرب العالمية الثانية! الآن: – أنا وأنت (تقريباً لا مكان لنا في هذه الرزنامة بعد!) أود الآن أن أنتقل لنقطة فلسفية هي في اعتقادي سبب في البؤس البشري عبر كل عصوره. هذا الذي ظهر في الساعة ١١:٥٢ ليلاً يعتقد بأن كل ما سبق قد حدث لأجله أو لأجل نوعه (الهومو سابينس)! هو الوحيد الذي أُبتلي بمسألة المعنى، عليه باستمرار أن يجد معنى لحياته، لهذا السبب اخترع شتى صنوف القصص والخيالات والأوهام كي ينجو من مسألة المعنى ويضع نفسه في مركز الوجود والكون. ولكن مع ذلك كل هذه القصص والأوهام لم تشفع له، لقد فشلت كل الأوهام. لهذا السبب أعتقد بأن من يكافح باستمرار باحثاً عن مسألة معنى لحياته هو إنسان إما بائس أو أحمق. علينا أن ندرك جيدا وبكل وضوح بأن هذا الزمن المرعب منذ لحظة الانفجار العظيم حتى الآن ليس هدفه ظهور الانسان ولا الديناصور ولا السحالي! السبب الذي أدى لتطور الحصان هو نفسه الذي أدى لوجودك الآن. لا فرق بينك وبين الحصان من وجهة نظر كونية! توقف عن مطاردة مسألة المعنى، توقف عن مطاردة المجد والقوة والشهرة والمال والأهمية الاجتماعية وكل هذا الخيال البشري، وسوف تهبط السعادة على كتفك كأنها فراشة. فقط اعتبر نفسك محظوظاً أن تكون ضمن هذا التاريخ العظيم، أن تشارك ولو حتى بأقل من رمشة عين في هذه المسرحية. تذكر دائماً بأن الأصل هو الفناء والبقاء استثناء .. هناك فعلاً عظمة في هذه النظرة للحياة.
“الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المنتدى الوطني الكويتي ولا يتحمل أي مسئولية عن محتواه.”