مقال | هل عودة حبس المدين هو الحل؟ (1/2)

أسامة السند 

محامي وكاتب

لعل ما يثير الاهتمام بخصوص سيل تعديل القوانين في الفترة الأخيرة هو ذلك الخبر الذي نشرته إحدى الصحف المحلية حول ضرورة إعادة اجراء الضبط والإحضار وعلى أنه مطلب مجتمعي. ولتوضيح ذلك الإجراء، فهو يتخذ ضد المتخلفين عن سداد ديونهم المدنية بشكل عام سواء كانت ناتجة عن متجمد نفقات في دعاوى الأحوال الشخصية أو حتى مختلف المطالبات المالية مابين الأفراد أو الشركات أو الجهات الحكومية. ومع وجود العديد من الإجراءات التي يتم اتخاذها ضد المدين كطلبات منع السفر وحجز أموال المدين المودعة لدى البنوك وحجز السيارات إلا أن إجراء الحبس كان الأكثر تأثيراً على المدينين، فوفقاً لهذا الإجراء التي نصت عليه المادة 292 من قانون المرافعات يتم استصدار أمر بحبس المدين مدة لا تزيد عن ستة أشهر إذا امتنع عن السداد، فيتم إلقاء القبض عليه ثم حجزه وذلك لإحالته لإدارة التنفيذ المدني، ليتم عرضه لاحقا على قاضي التنفيذ المختص ليقرر إطلاق سراحه أو الاستمرار بحبسه لحين السداد.

إلا وأنه وبعد صدور قانون رقم 71 لسنة 2020 بشأن قانون الإفلاس، تم إلغاء المادة المشار إليها، وذلك ما اعتبره البعض مكافأة “للمدينين” أو تساهلاً معهم ما من شأنه تشجيعهم على تخلفهم عن السداد لعدم وجود إجراء حازم يلزمهم به، ولكن ما تم تناسيه حين الحديث عن الرغبة بعودة ذات الإجراء هي تلك المساوئ التي نتجت عنه، ومشاهد الأحداث التي جرت بإدارة التنفيذ حين ذاك. حيث كانت محكمة الفروانية “الرقعي” القديمة تعج بأناس مقيدين بالسلاسل في ذلك الممر الضيق والطويل وكأنه ممر في سجنٍ قديم فيه اضاءات بيضاء ولكنها أصبحت تميل للإصفرار، كان بإمكان أي شخص مشاهدتهم وهم مصطفين خلف بعضهم وبصحبتهم عدد من رجال الشرطة، وكانت أعدادهم أحيانا تتجاوز العشرين شخص، ينتظرون أن يتم النظر بحالاتهم أو التوصل لدفع جزء من المبلغ مقابل إخلاء سبيلهم، منهم من كان محبوساً بسبب متجمد النفقة! وتستطيع أن تشاهد ذلك الإنكسار في أعينهم حين يشاهدون أولادهم بصحبة والدتهم للموافقة على مبلغ القسط الشهري لمتجمد النفقة. ولعلي أتساءل هل عودة الحبس فيما يخص النفقة سيزيد من تلاحم الأسرة ويحافظ على تربية الأولاد، والأب مكبل بالسلاسل أمام أولاده ..؟!

ولذلك، لابد أن نكون أكثر دقة حين النظر والتمعن بهذه المسائل، فهل جميع “المدينين” متخلفين عن السداد، أم أن نوعية الإجراءات هي من جعلتهم يتخلفون عنها .. فعلى سبيل المثال غالبية أحكام محكمة الأسرة تُلزم المدعي عليه بدفع النفقة الشهرية منذ تاريخ رفع الدعوى، والتي بالتأكيد سبق صدور الأحكام أو فتح ملفات التنفيذ فيها من أشهر طويله تصل أحيانا لأكثر من سنة، فلو احتسبنا أن مبلغ النفقة 250 دينار شهريا، وعند فتح ملف التنفيذ أصبح المبلغ المتجمد اثني عشر شهراً، ليصبح الإجمالي ثلاثة آلاف دينار، يضاف لها مبلغ استقدام الخادمة بمبلغ 800 دينار، وتأثيث مسكن بمتوسط ٧٠٠ دينار، وسيارة بمبلغ ألفين دينار .. سنلاحظ أن هناك أكثر من أربعة آلاف دينار مُطالب الأب بسدادها فجأة وهو ما قد لا يستطيع الوفاء فيه، وحينها لا مهرب من الحبس لحين السداد، ولعلكم تعرفون قصصاً وأحداث حول ذلك، ولا يعني ذلك بعدم وجود حالات لآباء يتعمدون عدم دفع النفقة الواجبة عليهم.

إلا أننا اليوم لسنا بصدد ذكر المساوئ والحسنات، ولا بصدد أن نقرر ما إذا أخل مقاول ما ببناء منزلك ولم يوفي بإرجاع المبلغ لك بعد صدور الأحكام عليه، أو حتى تم حبسك لمجرد أن شركة اتصالات أصدرت ضدك أمراً بالحبس لأنك لم تسدد خمسين ديناراً فقط!

فما يلفت انتباهنا بشدة .. هو الرغبة بالعودة إلى الوراء وإلى حلول الماضي، حلول وضعت منذ عشرات السنين ونحلم بعودتها اليوم! بينما لم نفكر بحلول جديدة تتوافق مع الحاضر والمستقبل وفق قواعد أكثر اتزاناً وأخلاقية من أن يتم حبس الإنسان لدَيْن مدني. فيُذكرنا ذلك بمرارة الأزمان السحيقة حين كان الإقطاعيون ونبلاء عصرهم يستعبدون الناس إن لم يسددوا ديونهم، وفي بعض الأحيان يجبرونهم على العمل لديهم لحين أن يتساوى مقدار العمل مع مقدار الدين، إنها حلول الماضي التي تم إعادة تشكيلها وإلباسها لباس جديد، ظاهرها حسن وباطنها مهترئ.

إن رغبتنا لنظام العودة للوراء، أنستنا أن ننظر للحلول المبتكرة المتماشية أكثر مع طرق حياتنا اليوم إذا ما تم تنفيذها. فبالإمكان على سبيل المثال لا الحصر اقتراح حل عن طريق الاستقطاع مباشرة من راتب الأب بما لا يجاوز 40٪؜ من الراتب الشهري مباشرة من جهة العمل، فهناك حلول علمية كثيرة قد تجد لها طريق دون الحاجة لحبس الناس ورميهم بالسجون؟!

كثير من الدول لديها اجراءات مدنية صارمة كوقف المعاملات البنكية مثلا، فلماذا لم يتجه المطالبين بالعودة إلى الوراء إلى وضع حلول أكثر منطقية وأخلاقية مثلما تم وضع اجراء الاستقطاع المباشر من الراتب، وهكذا بالنسبة لجميع أنواع المدينين.

لعل أهم ما ينبئنا ذلك به .. هو مرض عسر التفكير وصعوبة هضم أن نعود الى الوراء، سياسة العودة للماضي وتشريعات شرب عليها الدهر ليست بالحل. كما أن الحل ليس بإلقاء الناس بالسجون، بل بتطوير منظومة تشريعية تساهم بحل اشكالية التخلف عن سداد المديونية، كما أن الحل لا يجب أن يكون للأغنياء فقط، بل أيضا للفقراء، ويبقى السجن كعقوبة لجرائم نص عليها القانون، وماهو مدني يبقى بذلك النطاق.

“الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المنتدى الوطني الكويتي ولا يتحمل أي مسئولية عن محتواه.”